• تابعنا:

نسرين الريش لـ "حفريات": ترحيل السوريين من لبنان حكمٌ بالموت

Details

نسرين الريش لـ "حفريات": ترحيل السوريين من لبنان حكمٌ بالموت

باتت قضية النزوح واللجوء المعلم الأبرز للأزمة السورية، والجانب الأشدّ مأساويةً فيها، بعد أن صارت أعداد النازحين واللاجئين تتصدر الأرقام العالمية، ولا تحتاج قضايا اللجوء والنزوح إلى الحديث عن الجوانب المأساوية فيها؛ فهي في حدّ ذاتها شيء مأساوي؛ أن يضطر الإنسان لترك موطنه وحياته بعد افتقاد أبسط الحقوق الإنسانية وهي الأمن.


وقصة النزوح السوري، منذ تحول الثورة السورية، عام 2011، إلى حرب أهلية بين النظام الحاكم والمعارضة مليئة بالآلام، التي طاردت النازحين في غربتهم، خصوصاً في الدول التي استقبلت أعداداً كبيرة من النازحين، مثل لبنان وتركيا والأردن، فضلاً عن معاناة الهجرة إلى أوروبا.


وبالإضافة إلى ذلك؛ بات النازح واللاجئ السوري مهدداً في غربته، بسبب التضييق والعنصرية اللذين يعاني منهما في بلدان النزوح، وخطط الحكومات لإعادته قسراً إلى الموطن الذي فرّ منه بحثاً عن أبسط مقومات الحياة.


وفي لبنان، الذي يستضيف حوالي 1.5 مليون سوري، بين نازح ولاجئ ومقيم، يتهدّد السوريين خطر الترحيل إلى بلادهم بعد طرح الحكومة اللبنانية خطةً لترحيل 15 ألف نازح شهرياً، اعتماداً على ضمانات قدمها النظام الحاكم، رغم معارضة المنظمات الدولية المعنية بملف اللجوء.


وللوقوف على وضع اللاجئين والنازحين السوريين في لبنان، والتحولات التي عايشها هؤلاء من الترحيب إلى النفور من أكثرية الشعب اللبناني، وموقف حزب الله من النزوح السوري، وتأثير الأزمة الاقتصادية السياسية في لبنان على أوضاع السوريين، حاورت "حفريات" المهندسة السورية، نسرين الريش، رئيسة مجلس إدارة منظمة "جنى وطن" السورية، المعنية بمناصرة قضايا اللاجئين، والتي أسستها منذ النزوح السوري إلى لبنان، عام 2014، وانتقلت معها إلى تركيا عقب اضطرارها مغادرة لبنان، وهي ناشطة في العمل الإغاثي ومناصرة حقوق اللاجئين حين كانت في سوريا ثم في لبنان واليوم في تركيا."


هنا نصّ الحوار:


كيف تنظرين إلى الخطة اللبنانية لإعادة 15 ألف سوري شهرياً إلى بلادهم؟


تعود قصة اللجوء السوري إلى لبنان إلى عام 2014، ومرت بمحطات عديدة، وتقلبات ما بين القبول الواسع من اللبنانيين إلى تغير ذلك نحو الرفض، وظهور العنصرية، وخلال هذه المسيرة التي امتدت ثمانية أعوام ظلت شرائح لبنانية داعمة للنازحين السوريين على طول الخطّ، وحتى اليوم.


والخطة الحكومية اللبنانية لترحيل 15 ألف نازح سوري شهرياً، فيما أسمتها العودة الطوعية، هي في حقيقتها ليست طوعية؛ إذ إنّ سوريا ليست أمنة لعودة النازحين، وهو أمر رصدته منظمتنا بالتعاون مع المنظمات المحلية والدولية العاملة في حقل الإغاثة وقضايا اللجوء، وصدر عنها تقرير بعنوان "أنت ذاهب إلى الموت"، وغير ذلك من التقارير التي رصدت حالات الاعتقال والتعذيب والقتل التي طالت عدداً من العائدين.


وفي لبنان، بات السوريون هم الشماعة التي يعلق عليها الساسة إخفاقهم الذي أوصل البلاد إلى حالة تشبه "الإفلاس"، مما كان له تداعيات على الأفكار الجمعية تجاه السوريين، وتغذت بتحويل الساسة كلّ مشاكل بلدهم إلى الوجود السوري الحالي.


وقبل طرح الخطة الحكومية لترحيل النازحين، وجدت مسألة العودة لدى السوريين أنفسهم حضوراً، بسبب عوامل الدفع والسحب.


ما هي عوامل الدفع والسحب نحو العودة إلى سوريا؟


عوامل الدفع هي التي تتعلق بالواقع اللبناني الذي يدفع السوريين نحو العودة إلى سوريا، وهي العوامل الأساسية وراء عودة مئات السوريين، وعوامل السحب تتعلق بالواقع السوري الذي يجعل النازح يفكر بالعودة، والأخيرة ليست أساسية في عملية العودة، وتقتصر على آمال معلقة على الحديث عن المصالحات.


عوامل الدفع هي الأهم، ومنها؛ انعدام فرص العمل أمام السوريين سواء بسبب الأزمة الاقتصادية وقوانين العمل اللبنانية التي تطبق عليهم، والأزمة الاقتصادية في لبنان التي لا تختلف كثيراً عن الوضع في سوريا، والحياة داخل مخيمات لا تتيح متطلبات الحياة الإنسانية، والعنصرية التي يتعرض لها السوريون في لبنان خلال الأعوام الأخيرة، ومنها حرق المخيمات وإطلاق الكلاب المتوحشة على المخيمات، وحوادث القتل التي طالت سوريين لأسباب عديدة، منها قتل أصحاب العمل اللبنانيين لعمال طالبوا بدفع أجورهم، وما تتعرض له السوريات من استغلال جنسي من عدد من أصحاب البيوت المؤجرة للسوريين، وكذلك شبكات الدعارة التي تضطر سوريات للدخول فيها لتأمين لقمة العيش لأسرهن، وتواطؤ السلطات مع اللبنانيين في قضايا الاستغلال الجنسي؛ حيث صار التهديد بالسجن أداة لإجبار نساء سوريات على ممارسة الجنس.


وتزداد المعاناة بعدم قدرة السوريين على اللجوء إلى القضاء لنيل حقوقهم؛ ففي حوادث القتل تُسلم الجثة إلى الأسرة التي تعود إلى سوريا لدفنها، وهناك يصبح رب الأسرة بين خيارين؛ تأمين الحياة للأسرة، أو العودة إلى لبنان لبدء رحلة البحث عن حق ابنه، كما في حالات مرصودة، ولهذا يترك كثيرون حقوقهم أمام صعوبة الحياة وانعدام القدرة، وفوق كلّ ذلك تصبح الحالة النفسية لكثيرين من النازحين غاية في الصعوبة، بما يدفع العشرات نحو الانتحار.


هل رحّلت حكومة لبنان سوريين قسراً؟


نعم، في نيسان (أبريل) عام 2019، صدر قانون بتسليم أيّ سوري يدخل لبنان عن طريق التهريب، إذا لم يكن عليه ملفّ أمني لدى النظام السوري، ومنحت الحكومة اللبنانية تطمينات للنازحين السوريين بعدم ترحيل من دخل قبل صدور القانون، لكن ما حدث أنّ الحكومة استغلت القانون واعتقلت العديد من النازحين، بسبب عدم تجديد الإقامة، دون مراعاة عدم قدرة معظم النازحين على دفع عدة مئات من الدولارات لتجديد الإقامة، وجرى اعتقال العشرات من أماكن العمل، بذريعة تهمّ تتعلق بالإرهاب.


ولأنّ تاريخ تطبيق القانون تزامن مع ظهور جائحة كورونا، فلم تكن المحاكم تعمل، واكتظت السجون بالسوريين لمدة أشهر دون محاكمة، فقامت الحكومة اللبنانية بتسليم عدد كبير منهم إلى الحكومة السورية، لأنّها لم تكن تقدر على محاكمتهم، ولم ترد الإفراج عنهم حتى لا يظلوا في لبنان.


كيف هو التنسيق الأمني اللبناني السوري؟


لم ينقطع التعاون الأمني بين الأنظمة الأمنية في سوريا ولبنان أبداً، سواء عبر المطارات والمعابر، حتى أنّ السلطات الأمنية اللبنانية قامت بملاحقة الناشطين السوريين في لبنان تحت بند التعاون الأمني بين الطرفين، وحتى الخطة اللبنانية لترحيل السوريين تعد أمنية في الأساس.


ومن تبعات هذا التنسيق أنّ عمليات الترحيل لم تنقطع، لكنها لم تتخذ شكلاً منظماً ومتواتراً، مثلما هي الخطة المطروحة اليوم، وقامت السلطات الأمنية في لبنان بترحيل المئات، ومنذ حوالي ستة أعوام لجأت الحكومة إلى إجبار سوريين على التوقيع على أوراق لدى مفوضية شؤون اللاجئين بشأن العودة الطوعية، والحقيقة أنها لم تكن طوعية، بل جاءت نتيجة لعوامل السحب والدفع التي ذكرتها.


ماذا حدث للعائدين إلى سوريا؟


جزء من العائدين تعرضوا للاعتقال، ولم تُجدِ التطمينات اللبنانية السابقة نفعاً. وكان هناك حديث عن عودة طوعية برعاية الأمم المتحدة، تتضمن تقديم إغراءات للعودة، منها؛ منح دراسية، وسلال غذائية، وضمانة المفوضية والأمم المتحدة لأمن اللاجئين، لكن إذا كانت المفوضية والأمم المتحدة لا تستطيع الخروج من مكاتبها في لبنان لمتابعة أحداث العنف ضدّ المخيمات والأحداث المرتبطة بالمخيمات، مثلما حدث من هجوم على مخيمات عرسال، عام 2014، فكيف بها وهي في سوريا، ولهذا جاء موقف المفوضية الرافض للخطة اللبنانية.


ولهذا أرى أنّ الحكومة اللبنانية حين تطرح خطتها لترحيل السوريين تهدف إلى ابتزاز المجتمع الدولي، طلباً للمساعدات، بعد أن تراجع تقديمها خلال الأعوام الأخيرة، وهو أمر يتحمل لبنان مسؤولية عنه.


إذاً، ما الظروف المطلوبة لضمان عودة آمنة؟


حددت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 22 عتبة حماية لا ينبغي أن تكون هناك أيّ جهود نشطة لإعادة اللاجئين السوريين دون تحقيقها، وبالنسبة إليّ هذه العتبات قائمة على فكرة تأمين الحدّ الأدنى من الخدمات، وتجاهل المناخ العام في سوريا الذي لا يوجد فيه أدنى من احترام لحقوق الإنسان بأشكالها كافّة، فضلاً عن غياب الخدمات العامة التي دمرها عدوان النظام والحرب الأهلية.


ولهذا، فلا عودة آمنة إلى سوريا قبل حلّ سياسي شامل، وقتها تُطرح مسألة عودة النازحين واللاجئين، وإلا، حتى مع وجود عتبات الحماية الـ 22، لن يلتزم النظام السوري بأيّ شيء، حتى في تقديم الخدمات العامة، بذريعة لا يفتأ يكررها وهي أنّ العقوبات الدولية هي السبب في الانهيار العام للمؤسسات.


بالعودة إلى طرح الحكومة وجزء واسع من الشعب في لبنان أنّ السوريين مسؤولون عن الانهيار الاقتصادي؛ كيف تقيّمين الدعم الدولي للنازحين السوريين في لبنان؟


هذا موضوع طويل، متعدد الأبعاد، منذ النزوح السوري إلى عرسال في 2014 حتى اليوم؛ بدايةً هناك عدة حقائق حول هذا الموضوع؛ وهي أنّه ممنوع ترخيص جمعيات سورية في لبنان، ولهذا كانت الإغاثة الدولية تصل إلى خمس جمعيات لبنانية، ثم تقوم هذه الجمعيات بتوزيعها على السوريين، والمنظمات السورية العاملة في لبنان مقراتها وتصاريحها في دول أخرى، وحتى لو أراد سوريون إنشاء منظمة أو جمعية إغاثية لا بدّ من أن تكون الأوراق الرسمية باسم لبنانيين، والجمعيات بهذا الشكل قليلة.


وحين نزحتُ إلى عرسال، عام 2014، وجدت من سبقوني دون أيّ دعم من الأمم المتحدة، والتي لم تتدخل إلا بعد عدة شهور، وتنوعت مصادر الدعم للسوريين في لبنان؛ جزء منها جمعته منظمات سورية من الدول الخليجية، والدور الإغاثي للمنظمات الدولية، والأموال التي حصل عليها لبنان من الدول المانحة، وتحويلات المغتربين السوريين في أوروبا والخليج وتركيا إلى أسرهم وعائلاتهم في لبنان، وبالطبع الدعم الدولي ضعف خلال الفترة الأخيرة، وكانت المنظومة اللبنانية، بكلّ ما فيها من فساد، حاضرة في عملية إدارة هذا الدعم.


ألا يشكّل النازحون السوريون عبئاً على الاقتصاد اللبناني؟


لم يشكّلوا عبئاً؛ لم تصرف الحكومة اللبنانية عليهم، كانت مصادر دخلهم متعددة؛ إما من أموالهم، أو العمل، وأذكر مثلاً أنني وجدت السوريين في عرسال يعملون في المحاجر، وهو عمل مرهق وشاق جداً، وكانت أجورهم لا تتعدى 10 دولارات في اليوم، وبعضهم لم يكونوا يحصلون على كامل أجورهم، وبعض العمال تعرضوا لإصابات عمل، وآخرون ماتوا جراء كوارث في العمل، وفي كلّ مكان تجد السوري يعمل في البناء والزراعة، وبعضهم افتتحوا مشاريع صغيرة، وآخرون حققوا نجاحات.


وأبداً لم يكن السوري عبئاً، وأستشهد بالنساء اللاتي عملت كثيرات منهنّ في مجالات الحياكة وغير ذلك، حتى أموال الإغاثة التي جاءت من جهات مانحة متعددة كانت تأتي على اسمهن ويصرفنها في لبنان.


حتى المعتقلين السوريين لم تكن الدولة اللبنانية تصرف عليهم شيئاً، كانت وجبات الطعام تأتيهم من منظمات إغاثية.


أما حديث الساسة في لبنان عن استنزاف الخدمات من قبل النازحين فهذا افتراء، ولنأخذ قطاع الصحة على سبيل المثال؛ كانت الأمم المتحدة تغطي 75% من تكاليف العلاج وبعض العمليات الجراحية للاجئين في المستشفيات الخاصة والعامة، ويدفع السوري 25%، فماذا حدث؟


رفعت المستشفيات اللبنانية الأسعار بشكل كبير جداً لتحصل على أموال طائلة من الأمم المتحدة، واضطر السوري إلى دفع الغالي والنفيس من أجل أبسط الخدمات الطبية جراء ذلك؛ فمثلاً عملية "لوز" بسيطة كانت تكلف 4 آلاف دولار، وعملية الولادة تكلّف ألفيْ دولار، أما عن تعامل المشافي اللبنانية مع اللاجئين السوريين فهو في غاية السوء؛ كانت الجثث تحجز لحين دفع المستحقات، وتكلفة الليلة 650 دولار، ونساء ولدن على باب المشافي لأنهن لم يمتلكن المال.


وبخصوص السكن، إذا وضع السوري خيمة كان يدفع إيجاراً مقابلها، وليحصل على الكهرباء دفع رسوم توصيل الخدمة، ودفع فواتير الاستهلاك مثل اللبنانيين، فضلاً عن الدعم الدولي للحكومة اللبنانية في قطاع المرافق العامة، ووصل الأمر بها أن تطلب دعماً لكلّ شيء باسم السوري، مثلاً سفلتة طريق، لأنّ النازحين يمرون عليه، وهكذا. لكن ما لم تذكره الحكومة اللبنانية هو تعرض الدعم للفساد.


كيف طال الفساد في لبنان الدعم الممنوح للسوريين؟


لا يصل الدعم إلى النازحين السوريين مباشرةً عبر الجهات المانحة، بل عن طريق خمس جمعيات لبنانية، كل واحدة منها تمثّل تياراً أو تابعة لتيار سياسي، ومنهم دار الفتوى، وعملت السلطات اللبنانية على حصر تقديم الإغاثة باللبنانيين، فلم تكن تسمح وقت أزمة عرسال بدخول إغاثة إلا عن طريق جمعيات لبنانية.


وهذه الجمعيات الخمس تمثّل الكتلة السياسية التي تدير دفّة الفساد في لبنان، ولهذا تعرضت أموال المنح إلى الاختلاس والنهب، واستغلت الحكومة احتكار اللبنانيين للدور الإغاثي في طلب المنح وابتزاز المجتمع الدولي باسم السوريين، وكنا نرى ممثلي الحكومة في الاجتماعات الدولية يطلبون تمويل مشاريع المرافق العامة بحجة استغلال السوريين لها.


وطريقة أخرى للفساد كانت في عملية تسجيل مستحقي الإغاثة؛ أولاً لم يشمل الدعم كلّ السوريين، فقط حوالي 50% تقريباً، ومن هذه النسبة كان عشرات الآلاف يتم فصلهم لأسباب اعتباطية، منها؛ تغيير المستفيد رقم هاتفه، أو عدم امتلاكه بريداً إلكترونياً ليستقبل عليه الرسائل، أو لأسباب تحديث البيانات، وفي إحدى المرات تمت إزالة أسماء 5 آلاف سوري اعتباطاً، وحتى الدعم الذي كان يصل لم يكن يتعدّى الـ 20 دولاراً للفرد شهرياً.


في ظلّ هذا الفساد؛ هل تم إنشاء منظمات للتربّح على حساب السوريين؟


نعم حدث هذا، أنشأ لبنانيون منظمات للتربح على حساب السوريين، غير الموجودة من قبل، وأثر ذلك بشكل كبير على أصحاب المصلحة من السوريين، كون الحصة الإغاثية تصل إلى المنظمات اللبنانية، والتي تنفق جزءاً منها لصالح السوريين وجزءاً آخر لا يصل، وهذا فقط شكل واحد من أشكال الفساد.


وشكل آخر حين انهارت الليرة اللبنانية، وصار هناك سعران للصرف؛ السعر الرسمي المتدني جداً، والسعر الحقيقي في السوق السوداء، ولأنّ أموال الإغاثة كانت تصل إلى مصرف لبنان المركزي، فكانت تُصرف وفق السعر الرسمي، مما أهدر أموالاً طائلة من حقّ السوريين، وحدث الأمر نفسه مع التحويلات إلى السوريين من الخارج.


تحدثتِ عن تحولات الموقف الشعبي في لبنان تجاه النازحين السوريين من الترحيب إلى مظاهر العنصرية؛ فماذا حدث؟


في بداية الثورة السورية، عام 2011، كانت الحدود مفتوحة بين القلمون والقصير وريف حمص الغربي مع لبنان، بعد انسحاب الهجانة السورية عقب وقت قصير من اندلاع الثورة، وجدنا دعماً واسعاً من اللبنانيين، كنا ننقل الجرحى إلى المستشفيات في لبنان للعلاج، ووجد كثيرون من السوريين الأمن في النزوح إلى لبنان.


وخلال حصار الجيش مناطق في حمص انقطع الخبز لمدة أربعة أشهر، فمدّنا به اللبنانيون، وحين خرجنا كنازحين استقبلنا اللبنانيون بترحاب كبير، ومنحونا في عرسال البيوت، كانوا يؤثرون النازحين السوريين على أنفسهم، وعندما اعتُقلت على يد الأمن اللبناني وقف إلى جانبي كثيرون من الناشطين والمحامين اللبنانيين، وحتى بعد أن غادرت إلى تركيا ما أزال على تواصل مع كثيرين من الأصدقاء في لبنان.


الفكرة أنّ الترحاب كان السمة السائدة، وصوت الرفض كان ضعيفاً، لكن خلال الأعوام الأربعة الأخيرة تغير الموقف، فصار صوت الرفض والعنصرية هو المسموع، ورغم ذلك هناك لبنانيون يحملون قضية اللاجئين، ويدعمونهم ويتصدّون لمظاهر العنصرية، هؤلاء يرون أنّ القضية السورية واللبنانية واحدة؛ لأنّ الظرف الأمني من هيمنة حزب الله والتدخل الإيراني لن ينتهي دون انتصار الثورة السورية.


متى، ولماذا، ظهرت الظواهر العنصرية ضدّ النازحين السوريين؟


باتت الظواهر العنصرية ملحوظة بشكل واسع بحدود العامين 2018 و2019، وقبل ذلك كان الأمر يتخذ شكل اللوم البسيط للوجود السوري، لكن ما كانت بالعنصرية الفجة التي تضخّمت، وتدعّمت، من خلال تحويل التمييز إلى قوانين مثل قانون العمل.


ونحن في القلمون استقبلنا نزوحاً لبنانياً عام 2006 لكن لم يمكث هؤلاء سوى بضعة أشهر، ووقتها فتحنا بيوتنا لهم، وهم فعلوا ذلك، لكن هناك اختلافات جوهرية؛ فعدد النازحين من لبنان كان محدوداً، والأزمة السورية طالت، وكلما طالت ظهرت العديد من القضايا، مثل اللجوء، والذي لم يكن واسعاً ويمثل أزمة قبل 2014. من جانب آخر فرضت الأزمة الاقتصادية في لبنان ضغوطاً على المواطنين، حتى باتت تنطبق عليهم مقولة "الميت ما يحمل الميت"، ولتوضيح هذه التحولات كان اللبناني يتبرع بنصف ربطة الخبز للسوريين، واليوم ينتقد وقوف السوري في الطابور معه من أجل الخبز؛ ذلك لأنّه بسبب الأزمة الاقتصادية لم يعد قادراً على تأمين ربطة الخبز بسهولة، وبات يرى أنّ السوري يزاحمه في الطابور.


كيف ساهمت الأزمة الاقتصادية اللبنانية في نمو العنصرية تجاه النازحين السوريين؟


مع سوء الأحوال الاقتصادية في لبنان نمت الخطابات العنصرية، وصار اللبناني كشخص يبحث عن كلّ فرصة كي يستطيع العيش، وحدثت مطاردة للوظائف التي يعمل بها سوريون، مثل المنظمات الإغاثية، التي تعرضت للهجوم الإعلامي وغير ذلك من اللبنانيين، حتى تمّ استبدال السوريين بهم.


والممارسات العنصرية كثيرة على المستوى اللفظي، نتيجة شيوع مفاهيم مغلوطة بشأن اللاجئين السوريين، مثل أنّهم يحصلون على الخدمات العامة بالمجان، وأنّهم يخربون لبنان، وكردّ فعل على ذلك شهدنا حوادث هجوم على المخيمات، وهجوم على المحلات التي افتتحها سوريون رغم أنّ أغلبها متواضع، وهناك حالات قتل لعمال سوريين طالبوا أرباب العمل بالأجور، والقصة المشهورة لزوج نانسي عجرم واحدة من ذلك.


وعلى المستوى الرسمي لا تبذل الحكومة جهوداً لمكافحة العنصرية، بل تساهم في زيادتها عبر الانتهاكات التي يتعرض لها السوريون على يد عناصر الأمن، والتعامل مع السوري على أنّه إرهابي حتى يثبت العكس، والإساءة للنساء.


وأذكر مثالاً على العنصرية، ما حدث حين دخل السوريون إلى عرسال، ولم يجدوا فيها سوى مدرسة واحدة ومستشفى متواضع، فقاموا بجلب الدعم وتأسيس عشرة مدارس نموذجية وثلاثة مشافٍ، فما كان من الحكومة اللبنانية إلا أن تدخلت لإجبار السوريين على ترك وظائفهم ليحلّ محلّهم لبنانيون، وكان لحزب الله دور في ذلك؛ حيث طلبت سرية أمن المعلومات في حاجز اللبوة، التابع لحزب الله، من المؤسسات في عرسال عدم منح الوظائف ورخص المشروعات إلا للبنانيين.


ذكرتِ دور حزب الله في دعم العنصرية تجاه النازحين السوريين، كيف تعامل الحزب مع النزوح السوري؟


بدايةً حزب الله مسؤول عن النزوح السوري باتجاه لبنان، بعد اشتراكه في الحرب ضدّ الشعب السوري، حيث كانت مناطق عملياته في القلمون والقصير وريف حمص، وهي التي بدأت منها موجات النزوح الأولى بإتجاه عرسال اللبنانية ومناطق أخرى، وحين وصلتُ نازحة إلى عرسال عام 2014 كانت هناك 20 ألف أسرة نازحة.


ومارس حزب الله ضغوطاً أمنية كبيرة، وشهدنا اعتقالات وانتهاكات بحقّ السوريين، الذين لم يكن توصيفهم وقتها "لاجئون" كون لبنان بلد غير موقِّع على اتفاقية الأمم المتحدة بشأن اللاجئين، وفي هذا الوقت نشطنا في منظمة "جنى وقت" التي أسسناها في عرسال اللبنانية لتقنين وضع النازحين.


ويعرف كثيرون من النازحين حاجز اللبوة  الذي يفصل عرسال عن الداخل اللبناني، وهو حاجز يديره حزب الله، وله صفة أمنية مخيفة جداً، وكلّ من اجتازه من السوريين لم يكن يعرف ماذا سيتعرض له، وكان الحلّ اللجوء إلى التهريب لتلافي الحاجز، وتعرّض كثيرون لمخاطر كبيرة بسبب ذلك.


وبسبب أحداث عرسال، عام 2014، صار كلّ نازح سوري إرهابي محتمل بنظر حزب الله والأمن اللبناني، وطالت الاعتقالات الأطفال القُصّر والنساء.


عام 2017 شهدت مخيمات عرسال انتهاكات كبيرة على يد الجيش اللبناني، والأخطر أنّ كلّ نازح سوري مُعرض لتهمة "الدخول خلسة"، التي بسببها تمّ اعتقال كثيرين، وكانوا يرحلون إلى السجن سيئ السمعة "رومية"، وقضى عددٌ من المعتقلين أعواماً في السجن، وتعرّضت أنا أيضاً للسجن بتهمة الدخول خلسة حتى الإفراج عني بمهلة عشرة أيام لمغادرة البلاد، وما أنقذني من الترحيل إلى سوريا هي ورقة اللاجئ التي كانت بحوزتي من الأمم المتحدة.


وظلّ الترحيل إلى سوريا معمولاً به حتى صدر قرار وزير الداخلية السابق، نهاد المشنوق، بمنع تسليم السوريين إلى النظام السوري، وخاصة حملة أوراق اللجوء من الأمم المتحدة، وعقب ذلك موّلت دولة خليجية سائر إقامات السوريين لمدة 4 أعوام، حيث كانت تكلفة الإقامة السنوية 650 دولار.


يحضر البعد الطائفي في وجود حزب الله وتدخّله في الحرب السورية، وكذلك تعدّ الطائفية مكوّناً أساسياً في الدولة اللبنانية؛ فهل تأثر النزوح السوري إلى لبنان بالطائفية؟


كسوريين نازحين في لبنان لم يكن للمنظور الطائفي حضور، بل معيار الأمن، والذي يعني أنّ هناك مناطق تمنح أمناً للسوريين، وتجعلهم في أمان من يد حزب الله، بالنسبة للسوري لبنان هو بلد فيه الجميع ويقبل الجميع، ونزح من سوريا مواطنون من طوائف مختلفة، وغالبيتهم من المسلمين السنّة، بحكم التركيبة الديموغرافية لسوريا، ونزحوا إلى كلّ المناطق في لبنان.


ولهذا سكن سوريون في عالية لأنّ فيها الدروز من جماعة وليد جنبلاط المعارضين للنظام السوري، وآخرون ذهبوا تجاه الشمال حيث طرابلس، لأنّها أقرب للبيئة السورية، ومنهم الغالبية السنّية، لكن السوري لا يفكر بالطائفة، بل يذهب لطرابلس لأنهم ليسوا منطقة سيطرة حزب الله، وهناك وجود سوري في مناطق فيها شيعة مثل صيدا جنوب لبنان، ورغم الخوف من يد حزب الله، إلا أنّ ظروف الحياة الرخيصة تجعلهم يتحملون المخاطر.


لكن هناك فرق بين حزب الله والطائفة الشيعية؛ فهناك ناشطون في حقوق الإنسان من الشيعة، مثل الشهيد لقمان سليم، دافعوا عن النازحين السوريين، وعلى المستوى الشعبي ساعد لبنانيون شيعة العديد من السوريين في المناطق الشيعية، سواء في تخليص إجراءات أمنية، وحتى وقت حصار مناطق في القلمون في سوريا كان هناك شيعة يساعدون السوريين، حتى العنصرية تجاه السوريين لا تنبع من كوّنهم سنّة.


وأذكر خلال وجودي في لبنان أني عبرت من منطقة شيعية فيها حواجز لحزب الله، وكان وقتاً عصيباً؛ حيث صور المقاتلين الذين ارتكبوا المذابح بحقنا في سوريا تملأ الشوارع على أنّهم شهداء، وسمعت كثيراً من الكلام عن كوني سورية.


كيف ينظر السوري لاستقبال الشعب اللبناني له في ظلّ هذه المعاناة؟ وكيف تؤثر على صورة لبنان في الذاكرة السورية؟


سؤال مهم، هناك تراث لبناني سوري مشترك، وعلاقات النسب والمصاهرة القوية، خصوصاً في المناطق الحدودية، والتقارب في العادات والتقاليد والتراث، وهنا أحكي من حياتي في منطقة القلمون القريبة من الحدود مع لبنان، حيث عائلتي عابرة النسب عبر الحدود، وفي القلمون نحن أقرب إلى لبنان حتى في الطبيعة الجبلية، التي تعدّ الجزء الشرقي من جبل لبنان.


وحتى في الأغاني، بالنسبة لأهل القلمون، تعبّر عنا فيروز ووديع الصافي، ونتشارك حتى سقوط الثلج، وخلال الحرب الأهلية اللبنانية نزحت عائلات إلى سوريا، ونشأ لبنانيون فيها، وفي ذلك تُحكى القصص، لكن تغير الكثير نتيجة الوجود العسكري السوري في لبنان، الذي ارتكب انتهاكات وجرائم بحقّ اللبنانيين، ولم نكن ندرك مدى بشاعتها حتى النزوح إلى لبنان، عام 2014، ولا يتحمّل الشعب السوري المسؤولية عن هذه الانتهاكات، بل يتحملها النظام السوري.


هناك مجتمع أعمال سوري في لبنان؛ فهل هناك تكاتف منهم مع النازحين؟


لا يوجد شيء من هذا، حرص مجتمع الأعمال السوري أو الأغنياء السوريون في لبنان، على عدم التواصل مع النازحين، حتى لا تُحرق أسماؤهم لدى الحكومة السورية، فلديهم أعمال في سوريا إلى اليوم.


كيف يشعر السوري في لبنان اليوم وهو يسمع عن خطط الحكومة لإعادته، فضلاً عما يعانيه من عنصرية؟


يشعر برعب هائل، يهيمن عليه الخوف من الترحيل القسري إلى الموطن الذي فرَ منه خوفاً على حياته، فضلاً عن معاناته اليومية لتأمين كفاف العيش، في حياة قاسية في المخيمات، وهو الشعور نفسه في تركيا، لكّن الأمر مُضاعف في لبنان؛ لأنّه لا سيادة للقانون، ولا تعرف عدوك من حليفك، ولماذا أنت مُلاحق أمنياً، وربما لن تسلم من القصص الكيدية، لهذا حتى لو لم يتم تطبيق الخطة اللبنانية لترحيل السوريين ستبقى التخوفات قائمة، وهناك نازحون ماتوا بسبب الضغوط النفسية التي يعيشونها/ ولهذا أشدّد على أنّه دون حلّ سياسي شامل، وتغيير حقيقي، لن يرغب سوري في العودة الطوعية إلى سوريا.

معرض الصور: